11 ديسمبر 2010

فلسطيني الأصل لكن بلا هوية






أدار مؤشر المذياع، تنقّل من محطة إلى أخرى، ثم عاد وأغلق المذياع، لا شيء يروق له، نهض من فراشه، فتح النافذة المطلّة على الشارع، حتى الشارع يغط بنوم عميق، هدوء
، هدوء قاتل، لا حركة، لا حياة، الوحدة قاتلة، البيت لا يوجد فيه سواه.
ألقى بنظره إلى الساعة فإذا هي الثالثة صباحاً، لم يزر النوم جفنه، شعر بحيرة وقلق، وبدا فكره يرجع إلى الوراء إلى ما قبل عشرين عاماً.
إلى بداية رحلة الكفاح التي بدأها والده دون أن يعلم بأنه سيكون هناك ضحية، فالبداية منذ أن سافر والده في رحلة الكفاح بحثاً عن المال والسعادة الوهمية، ولكن القدر لم يمهل الوالد طويلاً، فتوفي والطفل في الرابعة من عمره مع أمه التونسية..


وبعد معاناة في تونس، تكافح في تربيته، ولكن العادات والتقاليد العربية كانت نوعاً ما قاسية عليها، فتزوجت وسافرت إلى الأردن تاركة إياه، وبقي في حضانة جدته في تونس والوحدة تلاحقه، بلا أب .. بلا أم .. بعيداً عن أصله وأهله ووطنه، ولا حتى أوراق رسمية كاملة تثبت الجنسية الفلسطينية. 

بالرغم من كل هذا، عاش طفولته يحلم بالأهل والأحبة، ويردد قائلاً: ليتني أطير إلى فلسطين لأرى عمي الذي يشبه أبي وعمتي التي تحنّ إلي، في الوقت الذي لم يجد فيه من يعطف عليه، ويعلمه حتى الحروف الهجائية، فالجدة كانت أمية ..


يحلم برائحة الوطن، وصفاء سمائه، وزرقة بحره، وخضرة أرضه، وقدسيّته، وبينما هو غارق في أحلامه، تدق الساعة، فينظر من النافذة، ويجد بأن الشارع قد استيقظ، وحان موعد العمل في (كراج السيارات)، فالحظ لم يحالفه حتى بإكمال تعليمه. فبدأ يبدّل ملابسه حتى يبدأ يوماً جديداً، يتأمل بألا يطول شعوره بالغربة والوحدة.

وصل عمله وبدأ بالعمل وكله أحاسيس وهواجس وأفكار والحنين إلى الوطن لم يفارقه، وبينما هو يعمل نهض فجأة بوحشية1 ودهشة ليرى ما كتب على السيارة، فإذا هي تابعة للسفارة الفلسطينية! من شدة الدهشة راح يتأملها ليرى فيها صورة الوطن والأهل والأحبة، وأخذ يشد صاحب السيارة ويصرخ بأعلى صوته ويقول: أنا فلسطيني الجنسية .. أنا فلسطيني الجنسية. فنظر إليه الرجل بدهشة، ومن أين من فلسطين، فأجاب: أبي فلسطيني وهو من بلدة اسمها باقة الغربية، وأمنيتي أن أعود إلى أصلي وأهلي بدلاً من أن أبقى في بلاد أشعر فيها دائماً بالغربة والوحدة، ساعدني .. أرجوك.

فعثرت له السفارة الفلسطينية على أرقام الأهل والأحبة، وتحدثوا إليه والدموع والصرخات تسمع عبر أسلاك الهاتف، وتمنى أن يسمعه كل فلسطيني يفكر بالخروج من وطنه ويشعر به وهو يقول ليتك بقيت يا أبي في فلسطين، وعشت على الخبز والزيت والزعتر ورائحة الميرمية، ليتك بقيت في أرض الرباط، أرض الشهداء، ليتك بقيت لأترعرع هناك وأتعلم الجهاد والقتال، فالجهاد والقتال أهون علي مما أنا فيه اليوم، فالشهيد يموت مرة واحدة في وطنه وأنا أموت وأحيا مئة مرة في بلاد الغربة.

وكانت الدهشة كبيرة على أهله حين ظهر لهم ابن أخ في البلاد العربية، يقول أنا فلسطيني الأصل لكن ... بلا هوية.

وبقي حاله كباقي الفلسطينيين الذين يملكون الجنسية لكن بلا هوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق