30 سبتمبر 2011

في ذاكرة مجزرة حمام الشط



كان البحر في حمام الشط بتونس الخضراء عروس إفريقيا ولؤلؤة الساحل العربي مستسلماً لأشعة الشمس وللرياح الخفيفة، التي طيرت أوراق الشجر بحذر.وكانت عصافير المنطقة تزقزق مرتاحة البال وبلا هموم ومخاوف من الصيادين.. وكان أهالي المنطقة يمارسون أعمالهم كالعادة.. الرجال والنساء في أعمالهم وأشغالهن، التلاميذ من البنات والأولاد في مدارسهم. العجائز وكبار السن مع الأطفال والرضع في منازلهم..العمال في مصانعهم، والفلاحين في حقولهم، والشعراء والأدباء مع أحلامهم وأسفارهم يرسمون الشعر برشية فنان عشق تلك الأرض.
كانت منطقة حمام الشط تبدو كأنها قطعة من جنة على الأرض، هادئة، مسالمة ، جميلة، فيها حركة ونشاط وحيوية، تنتشر أشعة الشمس الذهبية على وجوه سكانها الطيبين.تنعش أجسادهم العربية السمراء نسمات الريح القادمة من جهة البحر.يستسلمون لغفوة سريعة تحت شجرة تين أو زيتون وعلى رمل أرض لشعب يحب الحياة. هناك في حمامي الأنف و الشط وجدت عائلات المقاتلين الفلسطينيين الذين اضطروا للرحيل عن لبنان بعد حصار طويل للعاصمة بيروت وقتال وصمود وتألق في المعركة.وجدوا المنزل المؤقت الجديد، و الاستقبال الشعبي الكبير، والرعاية والاحتضان من أهل تونس. هؤلاء الفدائيين الذين صعدوا السفن وأبحروا لمدة أسبوع كامل من بيروت حتى وصلوا الى تونس الخضراء. خرجت جموع غفيرة وهائلة من جماهير الشعب التونسي الشقيق في استقبالهم. جاءت الجماهير من العاصمة وضواحيها ومن قصفة وتوزر والجريد وصفاقس وقابس وبنزرت والقيروان وقصر هلال والمهدية وسوسة وكل تونس للترحيب بهم كأبطال وأهل حلوا ضيوفاً بعد شدة وقهر على شعب ينام ويصحو وهو يفكر بفلسطين.استقبلتهم جماهير تونس المشبعة بحب الحياة والمواجهة وصعود الجبال ورفض العيش بين الحفر بالترحاب. فشعروا أنهم عند أهلهم وبين ناسهم. ولما عادوا يلتقطون أنفاسهم بعد حصار بيروت ويجمعون شتاتهم ويلمون قوتهم، وأصبحوا عارفين أكثر بتركيبة تونس وطبيعتها شعباً ودولة وحياة.. فاجأتهم الطائرات الصهيونية فجر الحادي عشر من أكتوبر سنة 1985 بشنها غارة عنيفة على مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات في حمام الشط. سمتها عملية الساق الخشبية. لست أدري لماذا اختاروا هذا الاسم على عمليتهم الوحشية، هل لأنها ستسفر عن مذبحة تجعل الذي يخرج حياً من الغارة بلا سيقان غير السيقان الخشبية؟؟ و هل هي صدفة أن يكون في مقر أبو عمار جرحى فلسطينيين بسيقان خشبية، منهم من استشهد ومنهم من لم يصبه أي أذى لأنه غادر المقر قبل أيام قليلة من القصف متوجهاً للعلاج في مستشفيات أوروبا. ؟! أسفرت الغارة الصهيونية على حمام الشط عن سقوط نحو 60 شهيداً بين فلسطيني وتونسي. وكذلك أكثر من 100 جريح. وتم تدمير مقر عرفات. واحتجت الحكومة التونسية رسمياً وتقدمت بشكوى لمجلس الأمن الدولي لكن الفيتو الأمريكي منع صدور قرار يلزم الصهاينة بالتعويض ويدين غارتهم على تونس. هكذا عادت دماء الشعبين التونسي والفلسطيني لتسيل في خطٍ واحدٍ هو خط الانتماء لأمة واحدة وقضية واحدة ومصير واحد مشترك. فأهل تونس قدموا تضحيات كثيرة لفلسطين منذ النكبة والنكسة مروراً بانخراط الشباب التونسي المؤمن بالقضية الفلسطينية والقضايا المصيرية في فصائل العمل الوطني الفلسطيني في الأردن ولبنان، حيث كانت تدور معارك الدفاع عن القضية الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فاستشهد وجرح من التوانسة كما يحب أهل فلسطين تسميتهم عدداً من المناضلين. في حمام الشط ترقد جثامين شهداء فلسطين تحرس قبورهم تلة صغيرة وأعين أهل المنطقة، الذين لازالوا يتذكرون بعض الشهداء وبعض الأحياء. ومازالوا يحملون هم فلسطين وشعبها في قلوبهم وعقولهم. هذا رأيته وسمعته خلال زيارتي للمقبرة ربيع هذا العام. ففي المقبرة رفاق وأخوة نحبهم ونتذكر صمودهم- صمودنا معاً في حصار بيروت. المجد للشهداء، الوحدة لمة العرب.. والنصر آتٍ لا محالة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق