30 سبتمبر 2011

لمحة عن التاريخ الدموي الصهيوني بتونس مجزرة حمام الشط


في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، وتحديداً في كانون الأول 1983 وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في واقع سياسي وتنظيمي مشتت بعد خروجها من طرابلس، وتعثرت كل الجهود والحوارات التي أعقبت هذا الخروج لتوحيد الصفوف بين قيادة رئيس المنظمة ياسر عرفات وبين " المنشقين " الأمر الذي أدى إلى توزيع قوات " فتح " بين دمشق وتونس وبعض الأقطار العربية الأخرى . وقد تلا ذلك انشقاق في جبهة التحرير الفلسطينية قادة أبو العباس، نائب الأمين العام للجبهة، تنظيمياً وسياسياً وعسكرياً، ويتمتع بشعبية داخلها مما جعل معظم أفراد ومسؤولي هذا التنظيم يغادرون معه إلى تونس .
وقد عرف أبو العباس قبل هذا التاريخ بتخطيطه عمليات عسكرية مميزة وناجحة داخل الأراضي المحتلة مثل عملية نهاريا 1974، والطائرات الشراعية التي استهدفت مصفاة النفط الإسرائيلية في حيفا عام 1981 . وهى العملية التي أحدثت صدمة كبرى لدى القيادة الإسرائيلية في حينه . إذ استطاعت الطائرات الشراعية اختراق الحواجز الأمنية والتسلل جواً إلى العمق الإسرائيلي . وفى ظل تلك الانشقاقات والخلافات الداخلية على الساحة الفلسطينية، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السابعة عشرة في عمان ما بين 22 – 28 تشرين الثاني 1984، وتبعه توقيع اتفاق عمان في أوائل 1985 . وما أثاره هذا الاتفاق من جدل على الساحة الفلسطينية والعربية، وفي هذا الوقت بالذات في كانون الثاني1985، اتخذت القيادة الفلسطينية قراراً بتصعيد الكفاح المسلح داخل الأراضي المحتلة، وبضرورة عودة المقاتلين إلى لبنان . وقد شمل هذا القرار " فتح " والتنظيمات الأخرى، وسرعان ما بدأ الرجال في التخطيط ثم التنفيذ فأبحرت في نيسان 1985 الباخرة الفلسطينية التي كانت تقل 28 مقاتلاً فلسطينياً من قاعدة بحرية فلسطينية في إحدى الدول العربية وتبادلت إطلاق النار في عرض البحر مع الزوارق الحربية الإسرائيلية حيث استشهد في هذه العملية عشرون مقاتلا واسر ثمانية . وقد قام الشهيد أبو جهاد بإعداد الباخرة وتدريب المقاتلين في إحدى القواعد البحرية الفلسطينية بهدف ضرب وتدمير قيادة الأركان الإسرائيلية .
إلا أن السفينة اكتشفت في عرض البحر وتمت مهاجمتها من قبل الزوارق الحربية الإسرائيلية . وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال حول هذه العملية الجريئة، إلا أنها بقيت لغزاً إلى الآن وتضاربت الأقوال حولها فالبعض يقول إنها وصلت إلي الساحل الفلسطيني وجرى قتال على أرض فلسطين، بينما يقول آخرون أن الاشتباك وقع في عرض البحر .
ولكن الثابت أن الباخرة قامت بعدة مناورات قبل تنفيذ العملية ووصلت إلى الساحل الفلسطيني قبل مشوارها الأخير . وعلى ما يبدو فقد طرأ عليها خلل في اليوم المذكور أو " ساعة الصفر "
وربما لعبت الصدفة أو سوء الطالع دوراً في اكتشاف أمر الباخرة. ويقول أحد المحللين العسكريين أن الأقمار الصناعية الأمريكية قد اكتشفت الباخرة في عرض البحر وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بإعلام العدو الصهيوني بأمر الباخرة. وقد حققت هذه العملية أهدافاً سياسية ومعنوية، حيث ثبتت قدرة المقاتل الفلسطيني على الوصول إلى هدفه داخل الأراضي المحتلة رغم بعده آلاف الأميال عن الساحة الرئيسية للصراع، مما ولد دفعاً معنوياً لدى المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون مرارة البعد عن ساحة المعركة. كما شكلا دافعاً قوياً لدى أبو العباس الذي بدأ يخطط لعملية بحرية مشابهة، وان اختلفت في بعض تفاصيلها، وبالرغم من انشغاله آنذاك بالحوارات مع طلعت يعقوب وعلى عزيز، إلا أن تعلقه بالبحر وبالسفينة بدأ واضحاً من خلال العمليات البحرية العديدة التي خطط لها قبل الخروج من بيروت .
وقبل أن يستقر رأى أبو العباس على " أكيلي لاورو " كان قد قام بعدة استطلاعات في مالطة ودول أفريقية ساحلية تقيم علاقات مع إسرائيل، وقد رشح لمهمته أحد رجاله من ذوى البشرة السوداء، إلا أن هذه الخطط استبعدت وتمت الموافقة على " أكيلي لاورو " .
وخلال تموز 1985 وصلت الحوارات إلى طريق مسدود، وفشلت كل الصيغ التوفيقية، وأمام ضغط التنظيم اضطر أبو العباس إلى الإعلان عن عقد المؤتمر السابع لجبهته في 5 أيلول1985 .
معلومات خطيرة
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء عندما دخل ياسر عرفات قاعة المؤتمر في معسكر وادي الزرقاء الذي يبعد عن تونس العاصمة حوالي 100 كيلومتر، وكان من المقرر أن يفتتح المؤتمر العام السابع لجبهة التحرير الفلسطينية في الساعة الخامسة مساء، ولكنه وصل متأخراً وسط إجراءات أمنية مشددة وغير عادية . فدخل القاعة التي غصت بالمؤتمرين وبعدد كبير من رجال الصحافة العربية والأجنبية والوفود الصديقة من حركات التحرر العالمية، واستقبل بالتصفيق الحاد.
استمع عرفات إلى كلمات الوفود الصديقة والعربية ثم إلى كلمة أبو العباس، الذي كان يبدو سعيداً بنجاح مؤتمره حيث تم انتخابه من قبل أعضاء الجبهة أميناً عاماً ولم يدرك أحد آنذاك أن هذا الرجل الذي كان يتحدث عن جبهته والساحة الفلسطينية بهدوء وثبات، سيصبح بعد شهر واحد لغزاً محيراً تتحدث عنه وكالات الأنباء العالمية . كما لم يلاحظ أي من الموجودين ذلك الشاب الأسمر البشرة النحيف والمتوسط القامة والذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، يقف قريبا من المنصة، خافياً مسدسه بذكاء ولا تبدو عليه سمات المرافق . وقد يكون إبراهيم سلمان نفسه لم يفكر في تلك اللحظة بأنه سيخوض حرب مخابرات في قصة من أخطر قصص الحرب السرية بين المخابرات الفلسطينية والموساد. وكانت عينا سلمان ترقبان الحضور بحذر، وعادة يشعر المرافق بالتوتر والقلق في مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات مهما بلغت الاحتياطات الأمنية، فالمفاجآت غير السارة واردة في أية لحظة .
وأخيراً وقف عرفات وألقى كلمة تحدث في بدايتها عن تأييده للمؤتمر، ثم انتقل بسرعة إلى قضية حساسة وقال : " لقد وصلتنا معلومات من جهات صديقة مفادها أن مجلساً وزارياً إسرائيليا مصغراً قد اجتمع وقرر أن تشن إسرائيل غارة جوية على مقرات منظمة التحرير الفلسطينية " .
وأضاف : " وفى طريقي إلى هنا تحدثت مع المسؤولين التونسيين وأبلغتهم بالموضوع، فأعلنوا حالة الاستنفار في الجيش التونسي " . ثم واصل حديثه عن الأوضاع السياسية وخصوصا اتفاق عمان وضرورة مواصلة التحركات السياسية لعقد المؤتمر الدولي للسلام .
وكان واضحاً أن حديث عرفات بدا مستعداً لدى الكثيرين، فمسألة وصول الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى تونس ليست سهلة من الناحية العملية، إلا أن مسحة من الرهبة سيطرت على القاعة، وكان التساؤل الوحيد الذي يدور في ذهان الحاضرين : هل يمكن أن تصل الطائرات الإسرائيلية إلى هذا المكان ؟ !
وتناقلت وكالات الأنباء حديث أبو عمار. وكانت هذه المعلومات بحوزة المخابرات الفلسطينية قبل عشرين عاماً من عملية لارنكا التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لقصف مقر منظمة التحرير في حمام الشط ، وهو ما يؤكد أن عملية لارنكا كانت مجرد ذريعة . أما نية العدوان فميتة وجاهزة في انتظار التوقيت المناسب . تماماً كما حصل في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 عندما اتخذت إسرائيل من اغتيال السفير الإسرائيلي أرجوف في لندن ذريعة لهذا العدو. وقد غطت أحداث لبنان آنذاك على السبب المباشر في الغزو، أي محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي الذي أصيب بشلل وأصبح مقعداً بعد العملية، إلا أن هذه العملية التي تردد أبو نضال خطط لها كانت من ضمن عدة عمليات كان – كما تردد أبو نضال يخطط لها فضلاً عن قائمة شملت عدة أسماء .
إلا أن نبيل الزملاوي، مدير مكتب المنظمة في لبنان، آنذاك كانت مفاجأته أكثر من الجميع عندما اكتشف بعد عملية اغتيال أرجوف أن الشاب مروان الذي يرتبط بعلاقة قرابة مع صبري البنا (أبو نضال) وتحديداً ابن أخته، كان أحد مرافقيه وكان كثيراً ما ينوب عنه ويمثله في المهرجانات السياسية في بريطانيا، ولم يدرك حقيقة انتمائه إلا بعد الحادث إذ تبين أن مروان كان أحد الذين نفذوا عملية اغتيال السفير الإسرائيلي وكانت لدى المخابرات الفلسطينية قبل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 بشهور معلومات حول الحشود والاستعدادات الإسرائيلية للعدوان الذي خطط له أرئيل شارون .
في لارنكا
فجر يوم 25 أيلول 1985 اقتحم ثلاث مسلحين اليخت " فيرست " في ميناء لارنكا القبرصي حيث قتلوا امرأة واحتجزوا رجلين رهينتين مطالبين بالإفراج عن 20 معتقلاً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية . وقد انتهت هذه العملية باستسلام الفدائيين الثلاثة ومن بينهم أيان ديفيسون البريطاني، بعد مقتل الإسرائيليين الثلاثة، الذين كانوا أعضاء في جهاز المخابرات الإسرائيلية
الموساد وكانت بينهم امرأة أصبحت معروفة في الموساد ومن ألمع الجواسيس الإسرائيليين .
وكان هؤلاء الإسرائيليين الثلاثة يشكلون وحدة تجسسية تقودها المرأة التي عملت في اليخت باسم " أستر بولزار " واسمها الحقيقي سيلفيا رافائيل واستعملت أثناء خدمتها في الموساد أسماء عديدة مستعارة وجوازات سفر مزيفة.
وكانت مهمة سيلفيا رصد تحركات الفلسطينيين في قبرص، عبر عميل للشبكة يدعى مصطفى صبرا، لقي حتفه عندما قررت " القوات 17 " تصفية هذه الشبكة . وقبل هذه العملية بشهور، قامت الزوارق الحربية الإسرائيلية باعتراض العديد من السفن التجارية التي كانت تقل مجموعات فلسطينية متوجهة من قبرص إلى لبنان، وكانت مهمة صبرا استدراج الفلسطينيين إلى سفن معينة ومعروفة تلك التي يستخدمونها للعودة إلى لبنان وإعلام إسرائيل عنها مما أدى إلى اعتقال العديد من المقاتلين والكوادر الفلسطينية من خلال اعتراض السفن اللبنانية والقبرصية . أما سلفيا فكانت مطلوبة لدى المخابرات الفلسطينية نظراً للجرائم العديدة آتى ارتكبتها، ولعل أهمها جمع المعلومات وتسهيل دخول فريق اغتيال من الموساد إلى بيروت لتفخيخ السيارة التي تم بواسطتها اغتيال أبو حسن سلامة قائد " القوات 17 " في 22 يناير ( كانون الثاني ) 1979 .
وقد أحدث مقتل سيلفيا رافائيل صدمة عنيفة لدى الموساد وأوساط المخابرات الإسرائيلية التي كانت تعتبرها نادرة في حقلها وهذه الجاسوسة من مواليد جنوب أفريقيا من أب يهودي وأم غير يهودية، هاجرت إلى فلسطين المحتلة في شبابها وفى السبعينات انتحلت شخصية مصورة صحفية تحت اسم " باتريشيا روكسبرغ " وكانت مهمتها رصد الأحداث في الشرق الأوسط. ومن خلال شخصيتها الجذابة وعملها المثابر استطاعت أن تنشئ اتصالات مع شخصيات سياسية مسؤولة، وكانت مهمتها إعطاء إسرائيل معلومات تساعد في تصعيد المشاعر ضد الفلسطينيين، وفى النصف الثاني من السبعينات ظهرت سيلفيا في النرويج حيث التقت بمجموعة من عملاء الموساد وكانت مهمتها ملاحقة أبو حسن سلامة . ولكن التباساً حصل بين شخصين أدى إلى أن يقتل الموساد نادلاً مغربياً يدعى محمد بوشيكي ظاناً أنه قائد " القوة 17 " . وأثر هذا الحادث قبضت السلطات النرويجية على رافائيل وخمسة آخرين بتهمة القتل . وقال القاضي حينئذ أن الجريمة كانت جزءاً من عملية للمخابرات الإسرائيلية . ولم يمض سوى 19 شهراً حتى أخلى سبيل رافائيل لتظهر بعد ذلك فر باريس حيث جهزت شقة بمثابة مخبأ أمين لعملاء الموساد ثم اختفت بعدها عن الأنظار .
وفى عام 1979 تم اغتيال أبو حسن سلامة بتفجير سيارته لاسلكياً في بيروت . وتحدثت التحقيقات حينئذ عن اختفاء سيدة إنجليزية هادئة، كانت في الشقة المجاورة لمكان التفجير . وكانت سيلفيا تمتلك شققاً في تل أبيب وباريس وقلما كانت تقيم في إسرائيل، وكانت ترغب في اعتبارها يهودية، ولكن بعض الأوساط الإسرائيلية كانت ترفض ذلك باستمرار لأنها من أم غير يهودية .
وأثر عملية لارنكا حددت القيادة الإسرائيلية توقيت الغارة على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، في حين اتخذت إجراءات أمنية فلسطينية لمواجهة اعتداء محتمل . وكعادتها قامت أبواق الدعاية الصهيونية بشن حملة كبرى ضد منظمة التحرير و الإرهاب لتشكل غطاء للعدوان الذي خططت له قبل شهور من الغارة . كما كانت المخابرات الإسرائيلية في الوقت نفسه تلاحق طائرة أبو عمار . وهكذا تقررت الغارة صبيحة اليوم الأول من تشرين الأول 1985 .
طائرة عرفات
في فجر ذلك اليوم كانت الطائرة التي أقلت ياسر عرفات وأبو أياد من بغداد إلى المغرب ثم إلى تونس . قد غيرت طريقها نتيجة لمعلومات حول نية الطائرات الحربية الإسرائيلية اعتراض سبيلها في الجو، وتحويل مسارها إلى مطار إسرائيلي أو إسقاطها . لكن هذه المحاولة الإسرائيلية فشلت لتصل بأمان إلى تونس، وذهب عرفات إلى مقر قيادته في حمام الشط ، وما كاد يلتقط أنفاسه حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المقر في تمام الساعة العاشرة والربع صباحاً، بينما كان عرفات غير بعيد عن مقر إقامته يقوم بتمارين رياضية كعادته كل يوم فهو حريص على الركض والسباحة وركوب الخيل وقد كان في تلك الساعة يرتدى لباساً رياضياً وشاهد الغارة التي استهدفت مقر القائد العام والأركان و" القوة 17"
وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية قد أقلعت فجرا من فلسطين المحتلة ورصدت وحدات الرادار المصري هذه الطائرات ولكنها عجزت عن تحديد الجهة التي تقصدها .
واظهرت أجهزة الرصد المصرية إن هدفا بحريا غير إسرائيلي كان يساعد في القيام بتشويش إداري أثناء تحليق الطائرات الإسرائيلية في الجو، وأعطيت أوامر فورية للطيران المصري وأجهزة الدفاع بالتعامل مع الطائرات الإسرائيلية إذا ما اخترقت المجال الجوى المصري، كما تم رفع حالة التأهب القصوى إلا أن أثر الطائرات الإسرائيلية فقد على أجهزة الرادار. الأمر الذي أدى إلى تحريك طائرة استطلاع مصرية على الفور لملاحقة الطائرات الإسرائيلية التي أخذت خط سير مطابقاً لطرق الطيران الدولية فوق البحر المتوسط .
وقد استخدمت إسرائيل في الغارة 16 طائرة من نوع " أف 16 " تزودت في الوقود بالجو . وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تمتلك طائرات الصهريج، وهى من نوع " بيونغ – 707 " أو " دى . سى 9 " أو " دى سى 10 " فقد تم تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود في الجو ثلاث مرات، مرتين في الذهاب ومرة في العودة . وانطلقت طائرات الصهريج من إيطاليا بدون علم الحكومة الإيطالية . وكانت قد وصلت إلى مطار روما ثلاث طائرات صهريج أمريكية من نوع" بيونغ – 707 " في السابع والعشرين من أيلول تابعة للسرب الثالث عشر في وحدة التزويد بالوقود بالجو لدى الحرس الأمريكي ومقرها ولاية أوهايو،
وذلك للمشاركة في مناورات لحلف شمال الأطلسي. ورصدت إيطاليا طائرة من هذا النوع في الممر الجوى الذي استخدمته الطائرات الإسرائيلية في الغارة. كما أن مصادر مطار روما ذكرت أن طائرتين من الثلاث قد تركتا مربضيهما في أقصى اليسار من المطار في ساعة مبكرة من فجر يوم 1 تشرين الأول وعادت إحداهما إلى ممر الهبوط في الساعة العاشرة والربع صباحاً فيما طلبت الثانية الإذن بالهبوط الساعة السادسة والنصف مساء .
وبعد الغارة مباشرة وضعت الحكومة الإيطالية حراسة مشددة وغير عادية على الممر الذي تربض فيه الطائرات الأمريكية الثلاث، وأدان رئيس الوزراء الإيطالي بتينو كراكسى إسرائيل بلهجة قاسية جداً وقال إن إيطاليا مصممة على استعمال حقها لمعرفة ما إذا كانت طائرات واشنطن قد استخدمت الأراضي الإيطالية لتزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود .
ولم تخف الولايات المتحدة الأمريكية دعمها للغارة الإسرائيلية وباركت ما حصل بعد ربع ساعة فقط من الغارة وعلى لسان لارى سبيكس الناطق الرسمي للبيت الأبيض، في حين واصلت وسائل الإعلام الإسرائيلية ادعائها بمقتل عرفات، حتى ظهر مساء ذلك اليوم في حديث مباشر من تونس مع التلفزيون الإيطالي القناة الأولى . وبعد ساعة من الغارة الإسرائيلية أعلنت إذاعة تونس النبأ على النحو التالي : "
"طائرات مجهولة الهوية قامت بقصف منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط " .
وكان مطار قرطاج الدولي قد رصد الطائرات الإسرائيلية قبل الغارة بدقائق وأبلغت المعلومات إلى وزارة الدفاع ، التي رصدت راداراتها الطائرات المغيرة قبل دقائق من وصولها ، في حين أبلغت إيطاليا تونس قبل دقائق من الغارة بأن طائرات مقاتلة تتجه نحو تونس !!
وجاءت الغارة الإسرائيلية في ظل أجواء من التوتر في العلاقات التونسية – الليبية وكانت هذه العلاقات شهدت تدهوراً خطيراً خلال الشهور التي سبقت الغارة ، وكان الجيش التونسي وقد وضع في حالة تأهب قصوى لمواجهة عملية عسكرية ليبية ضد تونس ! الرأي العام التونسي كان مهيأ لغارة ليبية إسرائيلية، بسبب الحرب الإعلامية المتبادلة بين البلدين وفعلاً، قام الجيش التونسي بنقل طائراته الحربية من نوع ف – 5 إلى قواعد عسكرية في الجنوب التونسي ، قرب الحدود التونسية الليبية، قبل الغارة، وذكرت بعض المصادر أن بورقيبة أصدر أوامره بعدم خروج الطائرات الحربية التونسية للتصدي للطائرات الإسرائيلية، وعلق محمد مزالي على هذه الحادثة بعد الغارة في حديث بثه التلفزيون التونسي، قائلاً : " لو خرجت الطائرات التونسية لاصطادتها الطائرات الإسرائيلية مثل العصافير " .
وقد حاول الضباط التونسيون في قاعدة " سيدي أحمد " الجوية قرب بنزرت، التي تبعد حوالي 50 كيلو مترا عن مقر المنظمة، الخروج بطائراتهم بغض النظر عن نوعية الطائرات يدفعهم الحماس للدفاع عن الوطن. وبعد نصف ساعة من انتهاء الغارة جاءت طائرات جزائرية مقاتلين اشتركت مع الطائرات التونسية في التحليق فوق حمام الشط وتونس العاصمة، خوفاً من قيام الطائرات الإسرائيلية بعملية التفاف خصوصاً أنه بعد الغارة مباشرة وصل عدد كبير من المسؤولين الفلسطينيين والتونسيين إلى مكان الغارة ومنهم عرفات وأبو أياد وأبو جهاد وأبو العباس . ومن الجانب التونسي جاء محمد مزالي والهادي البكوش ووسيلة بورقيبة وزين العابدين بن على .
وكانت ردة الفعل التونسية الشعبية قويت فعمت المظاهرات العاصمة التونسية وتوجهت إلى السفارة الأمريكية مطالبة بقطع العلاقات التونسية – الأمريكية، وفى الوقت نفسه استقيل مستشفى شارل نيكول في العاصمة الجرحى والشهداء الذين بلغ عددهم حوالي 200 جريح و 70 شهيداً، فشهد المستشفى اكبر عملية تبرع بالدم، وكان كل تونسي يريد التعبير بأي شكل عن انتمائه وتضامنه وتعلقه بالقضية الفلسطينية وأقبل أصحاب الجرافات من المواطنين ليتبرعوا بالعمل تطوعاً لإزالة الأنقاض .
وعلى أثر هذه الغارة وتصريح سبيكس، توترت العلاقات التونسية الأمريكية، فاستدعى الرئيس السابق الحبيب بورقيبة السفير الأمريكي في تونس، بيتر سيبستيان ، وأبلغه استنكار الموقف الأمريكي، ولا سيما أن الغارة كانت خرقاً للتعهدات الأمريكية بعدم السماح باعتداءات أجنبية على تونس . ولم يكن لدى السفير ما يقوله سوى : " سأبلغ واشنطن " ! وقد تعمد بورقيبة سماع السفير كلاماً قاسياً، غير أن هذه السحابة لم تمر بهدوء ، ولم يتم تجاوزها إلا في شباط 1986 عندما قام جورج بوش، نائب الرئيس الأمريكي حينها وجورج شولتز وكاسبار واينبرجر بزيارة قصيرة لتونس، فسوى الخلاف بتقديم مساعدات عاجلة، لتحديث أسلحة الجيش التونسي .
الرد على العدوان
ولم تكن الغارة على مقر منظمة التحرير حدثاً عاديا يمكن أن تزول آثاره بسهولة . ومنذ الساعات الأولى التي تلت الغارة وردود الفعل المختلفة تتواصل وتتفاعل رسمياً وشعبياً، فلسطينياً وعربياً ودولياً، ففي 5 تشرين الأول 1985، بعد الغارة بخمسة أيام، كان في رأس بركة جنوب سيناء، جندي مصري يدعى سليمان خاطر . يفجر حزنه على ضحايا الغارة ونقمته على الإسرائيليين بإطلاق الرصاص على مجموعة من الإسرائيليين الذين أهانوا العلم المصري، فقتل سبعة منهم وحوكم في 28 تشرين الأول بالأشغال الشاقة المؤبدة في محكمة السويس العسكرية وبعد ذلك تم إعدامه داخل السجن. كذلك حركت النقمة شرطياً تونسياً يعمل في فرقة " النظام العام " وهى كانت تقوم بحراسة مقر منظمة التحرير في حمام الشط، وكانت المجموعة تتكون من 12 رجلاً، مسلحين ببنادق رشاشة، وأحد أعضاء المجموعة لم يستسلم للصواريخ والقنابل التي تقذفها الطائرات الإسرائيلية، رغم معرفته أن رصاصته لن تصل إلى الطائرات المغيرة، فعادت إحدى الطائرات وأطلقت سيلاً غزيراً من مدفعها الرشاش فاستشهد مع مجموعته. وكان الحادث الثاني بعد عملية سليمان خاطر، ذلك الذي أطلق خلاله الشرطي التونسي الرصاص على مجموعة من اليهود في جزيرة جربة التونسية. وفى 5 تشرين الأول ذاته كان المفاجأة عندما أدان مجلس الأمن العدوان الإسرائيلي على مقر المنظمة وصوت 14 عضواً في صالح قرار الإدانة وامتنعت الولايات المتحدة للتصويت ولم تستخدم " الفيتو " وطالب قرار مجلس الأمن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بصفة عاجلة اتخاذ إجراءات لاقناع إسرائيل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الأعمال التي تنتهك سيادة أي دولة، ووحدة أراضيها وأكد القرار أن لتونس الحق في الحصول على تعويضات مناسبة نتيجة للخسائر في الأرواح والأضرار المادية .
ولم تتخذ الإجراءات التي تحدث عنها مجلس الأمن ولم تقتنع إسرائيل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الأعمال، فاغتالت أبو جهاد في تونس في 16 نيسان 1988. واختطفت الطائرة المدنية الليبية التي أقلت عبد الله الأحمر، نائب الأمين العام لحزب البعث الحاكم في سوريا وولدت الغارة الإسرائيلية حالة يأس من قدرة العالم على إقناع إسرائيل بالكف عن ممارسة الإرهاب، واتخذ قراره بالرد بمنتهى العنف، فشهدت الأراضي العربية المحتلة عمليات جريئة ضد أهداف إسرائيلية، ولا سيما بناية المخابرات الإسرائيلية في القدس ، التي انهارت بفعل انفجار. كما أدت الغارة إلى التعجيل فلا تنفيذ عملية كبرى كان يخطط لها أبو العباس استهدفت ميناء اشدود في الساحل الفلسطيني، وقد كان من المقرر لهذه العملية أن تحصل بعد التاريخ الذي نفذت فيه وهو 8 تشرين الأول بأسبوعين على الأقل. وكان من ضمن الخطة أن تحمل الباخرة عدداً من الصواريخ ، إلا أن الغارة عجلت بالتنفيذ . ولم يكن المقصود احتجاز رهائن على الباخرة الإيطالية " أكيلي لاورو " بل كانت مجرد وسيلة وصول إلى ميناء اشدود لتنفيذ عملية فدائية كبرى داخل الأراضي المحتلة ، ولم يكن من ضمن توجهات منظمة التحرير العودة إلى العمليات الخارجية ، كما أكد ذلك ياسر عرفات في 7 تشرين الثاني 1985 في مصر، فيما عرف " إعلان القاهرة " الذي أوقف بموجبه العمليات الخارجية، ليقتصر الكفاح المسلح على الأراضي المحتلة إلا انه كان من حق المنظمة اتباع كافة الوسائل للوصول إلى الأراضي المحتلة للقيام بالعمليات المسلحة في إطار النظام الفلسطيني المشروع ، وكل ما حصل في عملية " أكيلي لاورو " إن الأسلحة اكتشفت على ظهر السفينة . وكان قرار المجموعة بتحويل وجهتها حفاظا على دماء الأبرياء ، ولو حصل ووصلت الباخرة إلى اشدود لاستغلت إسرائيل الفرصة وهاجمت السفينة وحدثت مجزرة .
ووجدت وسائل الإعلام الصهيونية في العملية فرصة لتحويل أنظار العالم عن الجريمة الإسرائيلية في انتهاك الأراضي التونسية ، وقصف مقر المنظمة . واتهمت إسرائيل وسائل الدعاية الصهيونية في أمريكا أبو العباس بقتل عجوز أمريكي مقعد ، على الرغم من أنه لا علاقة للمجموعة بمقتله، وكان منطقياً أنه باستطاعة المجموعة المسلحة قتل العشرات على ظهر الباخرة لو أرادت ذلك في عرض البحر، ولم يكن هناك سبب واحد يمنعهم من ذلك ، لكن نية الاختطاف أو القتل لم تكن متوفرة . إلا أن إسرائيل عمدت بكافة الوسائل وبالتأثير عبر اللوبي الصهيوني في أمريكا، إلى إثارة الولايات المتحدة ضد منظمة التحرير وملاحظة أبو العباس، صفحة جديدة من مطاردة المخابرات لهذا الرجل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق